إذا أحب الإنسان أحدا أحب لقاءه، ولم يطق فراقه والبعد عنه، فإذا فارقه امتلأ قلبه بالشوق إلى لقائه والحنين إليه
قال ابن زيدون في فراق محبوبه
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
فإذا كان هذا الشوق لمحبوبه من الخلائق فكيف بمن حبه إيمان يملأ عليه قلبه
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون محبة النبي صلى الله عليه وسلم على كل محبوب من الخلائق سواه متمثلين في ذلك قوله «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين »، وقوله لعمر «حتى أكون أحب إليك من نفسك »
فكانوا يحبونه أكثر من أنفسهم، ويفتدونه بكل غال ونفيس، شعارهم فداك أبي وأمي يا رسول الله
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت الدنيا في عيونهم لولا تعللهم بحب من هو أعظم منه قدراً؛ وهو حب الله عزوجل الذي كلفهم بحمل الأمانة وتبليغ الرسالة للناس أجمعين
وقد عبر صديق الأمة عن هذا بقوله «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت »
لما حضرت بلالَ بنَ رباحٍ الوفاةُ وغشيته سكرات الموت قالت امرأته واكرباه فقال لها بلال بل وافرحاه غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه
وليس هناك محبوب أعظم في قلب المؤمن من الله عز وجل، فمحبته فوق كل محبة، قال تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لِقَاءَهُ» فقالت عَائِشَةُ أو بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إنا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قال «ليس ذاك، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وإن الْكَافِرَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ أَكْرَهَ إليه مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ الله لِقَاءَهُ»
وفي رواية أخرى يقول «من أحب لقاء الله عز وجل أحب الله تعالى لقاءه، ومن كره لقاء الله تعالى كره الله عز وجل لقاءه»، فبكي القوم، فقالوا يا رسول الله، وأينا لا يكره الموت قال «لست ذلك أعني، ولكن الله تبارك وتعالى قال فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ، فإذا كان عند ذلك أحب لقاء الله تعالى، والله عز وجل للقائه أحب، وَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَالِينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، فإذا كان كذلك كره لقاء الله تعالى، والله عز وجل للقائه أكره قال النووي الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل التوبة؛ فحينئذٍ يكشف لكل إنسان ما هو صائر إليه، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد الله لهم، ويحب الله لقاءهم ليجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يكرهونه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم
وعن الحسن قال والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموما محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه في دعائه أن يرزقه لذة النظر إلى وجهه الكريم في الجنة، والشوق إلى لقائه فيقول «وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين» رواه النسائي وأحمد
ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ويقول لهم «إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار لقاء الله » فبكى الصحابة لما علموا بفراقه لهم ولكنه يطمئنهم ويقول لهم «إن موعدكم الحوض» ثم تصعد روحه الطاهرة وهو يرفع سبابته للسماء معلنا ومعترفا بوحدانية الخالق ويقول «بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى»
وفي حديث القراء أصحاب بئر معونة بلغوا قومنا عنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، وروي أنه كان قرآنًا فنسخت تلاوته
وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا «اهتز العرش لحب لقاء الله سعدًا»
قَالَ عبد الرحمن بن أبى ليلى فما ظنك بهم حين ثقلت موازينهم، وحين طارت صحفهم في أيمانهم، وحين جازوا جسر جهنم فقطعوه، وحين دخلوا الجنة فأعطوا فيها من النعيم والكرامة فكأن هذا لم يكن شيئاً فيما أُعطوه بالنسبة للنظر إلى وجه الله الكريم
ويوم المزيد في الجنة، يرجع المؤمن بعد لقاءَ الله والنظر إلى وجهه تعالى، وقد ازداد نضرة ونوراً وجمالاً يراه أهله فيبتهجون ويبشرون به، والله تعالى يقول وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، قَالَ الحسن البصري الناضرة الحسنة، حسنها الله بالنظر إلى ربها، وحُقَّ لها أن تنضْرُ وهى تنظُرُ إلى ربها مع أن هذه الوجوه قد دخلت الجنةَ بنورٍ على قدر إيمانها، ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً الحديث»
والشوق اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق
قال بعض السلف في قوله عزَّ وجلَّ وعجلت إليك ربِّ لترضي قال معناه شوقاً إليك
وقال من علامات الشوق حب الموت على بساط العافية، كيوسف عليه السلام لمَّا ألقي في الجب لم يقل توفني؛ ولما أدخل السجن لم يقل توفني؛ ولما دخل عليه أبواه وإخوته وخروا له سُجداً وتم له الملك والنعمة قال توفني مسلماً وألحقني بالصالحين
قال الله تعالى مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ العنكبوت قيل هذا تعزية للمشتاقين وتسلية لهم، أي أنا أعلم أن من كان يرجو لقائي فهو مشتاق إلي فقد أجلت له أجلا يكون عن قريب